كان العرب ، يشربون الخمر على كل حال ، وكانوا ينشدون فيها الأشعار، وتقع لهم بشربها الرزايا والبلايا. ومن حكمة الله أنه أخر تحريمها حتى بعد غزوة أحد في السنة الثالثة من الهجرة ، لأنها لو حرمت في أول بعثته ﷺ لامتنع كثيرمن الناس من دخول الإسلام من أجلها ، كما بينت أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها (... ولو نَزَلَ أوَّلَ شَيءٍ: لا تَشْرَبُوا الخَمْرَ، لَقالوا: لا نَدَعُ الخَمْرَ أبَدًا، ولو نَزَلَ: لا تَزْنُوا، لَقالوا: لا نَدَعُ الزِّنَا أبَدًا) رواه البخارى.
مراحل تحريم الخمر:
أولا: في قوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا(219) سورة البقرة، فوقع في النفوس أن إثمها أكبر من نفعها ، والناس لم يتركوها لهذا ، لشدة تعلقهم بها ولكن هذه الآية مهدت للتحريم لأنهم علموا أن إثمها أكبر ، ومن منافعهما جنى الأموال من بيعها ، ومن لعب الميسر، فلاعبه تارة يَغلِب فيغتنى، وتارة يُغلَب فيفتقر، وقد عانوا منهما (الخمر والميسر) النزاع الكثير والمخاصمات بينهم وسحل بعضهم بعضًا وقتل بعضهم بعضًا.
ثانبا: حُرِّم تناولها عند الصلاة فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ..(43) سورة النساء ، وسبب نزولها أن رجلا قرأ قوله تعالى: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ(1) سورة الكافرون، فلم يستطع أن يقول: (لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) ، بل قال: أعبد ما تعبدون، لعدم حضور عقله، وكانوا يعبدون الأصنام والأشجار والأحجار وهذا شرك بالله تعالى ، فمنعهم الله من السكر حال قرب الصلاة حتى يعلموا ما يقولون فيها، وتطمئن القلوب إلى تركها بالكلية، ولذلك كان عمر بن الخطاب رضى الله عنه يقول: "اللهم بين لنا في الخمر بيانًا شافيًا" أخرجه النسائى فى السنن الكبرى.
ثالثا: التحريم القاطع بعدما تهيأت العقول والقلوب لقبول حكم الله تعالى، فأنزل الله قوله سبحانه:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) سورة المائدة، فعلق الفلاح باجتناب الخمر والميسر والأنصاب الأزلام، وأخبر أنها جميعًا رجس، ومنكر، وباطل، ومن عمل الشيطان، قال تعالى: (إنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ(91) سورة المائدة، فانتهى المسلمون من شربها، وكان عمر يقول: انتهينا انتهينا(كما فى السنن الكبرى للنسائى) ، وتابعه الصحابة، وأهرقوا ما عندهم منها. وقال فيها النبي ﷺ: (كُلُّ شَرَابٍ أسْكَرَ فَهو حَرَامٌ) صحيح البخارى. والنَّهيُ يَشمَلُ القليلَ منه والكثيرَ لقوله ﷺ (ما أسْكرَ كثيرُهُ فقليلُهُ حرامٌ) أخرجه النسائي وصححه الألبانى .وانعقد إجماع أهل العلم على تحريمها، وأنها من المنكرات والكبائر. وإذا كانت الخمر تذهب العقول فالدخان والمفترات تحت أى مسمى (بانجو ، شابو ، تريمادول ، كوكايين ، هيروين ، مارجوانا....) تذهب بالصحة وتفضى إلى الموت لإنها من الخبائث وليست من الطيبات قال تعالى: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ..(4) سورة المائدة ، ومن قوله تعالى (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ .. (157) سورة الأعراف ، وأجمع أهل العلم بالقطع بتحريمها، وتحريم ثمنها، وتحريم التجارة فيها.
التوجيه العلمى: أجمع الأطباء المتخصصون بعد دراساتهم وتجاربهم المستفيضة عن الخمر والدخان والمفترات أنها ليست من الطيبات بل هى من الخبائث الضارة، وأن بها سموم تمرض البدن ، وتسبب أمراضاً كثيرة؛ منها: مرض السرطان، وموت السكتة الفجأة، ومنها تليف الكبد ، وتلف أجهزة الجسم وتؤدى إلى ضرر بالغ بالصحة يفضى إلى الموت. ولهذا ذهب المحققون من أهل العلم إلى تحريمها؛ لمضارها الكثيرة وخبثها في نفسها، وأن حكمها كحكم من قتل نفسه ، قال ﷺ : (مَن تَرَدَّى مِن جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَهو في نَارِ جَهَنَّمَ يَتَرَدَّى فيه خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَن تَحَسَّى سُمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَسُمُّهُ في يَدِهِ يَتَحَسَّاهُ في نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَن قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ، فَحَدِيدَتُهُ في يَدِهِ يَجَأُ بِهَا في بَطْنِهِ في نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا).رواه البخارى ومسلم
وجه الإعجاز: نزلت أيات تحريم الخمر بالتدريج فى بداية الإسلام كان لحكمة عدم نفور الناس من الإسلام مما يمنعهم عن الدخول فيه ، ومن حكمة التشريع أيضا أنَّ النَّبيَّ ﷺ سُئِلَ عنِ البِتْعِ -وهو شَرابٌ مُسكِرٌ كان يُصنَعُ مِن العسَلِ- فأجاب النَّبيُّ ﷺ حُكمًا كلِّيًّا يَصلُحُ تَعميمُه على كلِّ شَرابٍ تَوافَرَ فيه شرْطُ الإسكارِ؛ فقال: «كلُّ شَرابٍ أسكَرَ فهو حَرامٌ»، فكلُّ شَرابٍ أدَّى إلى الإسكارِ فهو مُحرَّمٌ، أيًّا كانت مادَّتُه الَّتي صُنِع منها، ، والنَّهيُ يَشمَلُ القليلَ منه والكثيرَ لقوله ﷺ فيما أخرجه (ما أسْكرَ كثيرُهُ فقليلُهُ حرامٌ) ، وهذه القواعد الأصولية تدل على حكمة التشريع ، وصدق الرسالة وصدق الرسول ﷺ.
المؤلفون | أ.د. حنفي محمود مدبولي |
التصنيف | التشريعي و البياني |
الوسوم | أصول المحرمات من الأشربة |
عدد المشاهدات | 369 |
عدد المشاركات | 0 |
شارك المادة | |
تحميل المادة | تحميل المادة |