فريضة الزكاة واستيعاب تطورات العصر

فريضة الزكاة واستيعاب تطورات العصر

إن الناظر في طبيعة التشريع في فريضة الزكاة -بالنسبة لمصارف الزكاة- يجدها قد حددت تحديداً قطعياً في القرآن الكريم في قول الله -عز وجل- :

﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾

(التوبة: 60).

أما بشأن الأموال التي تجب فيها الزكاة:(الوعاء الزكوي)  فإنها لم تتحدد في أنواعها على هذا النحو المفصل في تحديد مصارف الزكاة الثمانية؛ وذلك لأن الأموال التي تجب فيها الزكاة تتحدد بقاعدة النماء. وتحديد وعاء الزكاة على هذا النحو فيه حكمة سامية تجعل الزكاة معجزة تشريعية اقتصادية، حيث إن الأنشطة الاقتصادية, ومصادر الدخول، وأشكال الثروات متجددة ومتطورة, ولو تحددت الأموال التي تجب فيها الزكاة في عصر النبي ﷺ تحديداً مفصلاً فإنها كانت ستتحدد بناء على الأموال الموجودة في هذا العصر, وبذلك كان سيمنع أن يدخل في وعاء الزكاة الأنشطة الاقتصادية, والدخول, والثروات التي تستجد بعد ذلك، ولزيادة توضيح هذا المعنى؛ نقارن بين الحياة الاقتصادية في عصر النبي ﷺ, والحياة الاقتصادية في عصرنا، هذه المقارنة تكشف عن أنه توجد اختلافات جذرية في أشكال الأنشطة الاقتصادية, وفي مصادر الدخول, وفي أنواع الثروات, ولم يكن متصوراً أن تذكر أنواع هذه التطورات في الحياة الاقتصادية، ولنا أن نتصور ما كان يمكن أن يحدث لو أن الرسول ﷺ قال: "تجب الزكاة في شركات الطيران, أو في شركات الاتصالات، هذه الأموال وغيرها لم يكن من الممكن تصورها للمعاصرين للرسول ﷺ بل ولمن جاء بعدهم بقرون كثيرة حتى عصرنا الحديث. ولو حصر لنا ﷺ الأموال الزكوية لوقعنا في حرج, ولكان ذلك تحجيما لصلاحية التشريع الذي يتناسب مع العصور كافة ,ويستوعب جميع التطورات, والمستجدات، فالنبي ﷺ وضع لنا أسسا وعناصر للأموال التي تجب فيها الزكاة يدخل فيها كل ما يستجد أو له علاقة بهذه الأموال ".

فالزكاة بناء على هذا الأساس، تستوعب التطورات التي يعرفها المجتمع، فكيف يمكننا الحديث عن زكاة المصانع والمستغلات, والأوراق النقدية، والحسابات الجارية بالبنوك، وأسهم الشركات، التي تعرف تطورا كبيرا في الاقتصاد العالمي، والعقود التجارية ،وزكاة الصناديق الاستثمارية، وغيرها، فهذا يجعلنا نقف أمام مقصد عظيم في تشريع فريضة الزكاة، وهو:" استيعاب التطور والتغيُّر في الحياة الاقتصادية من حيث الدخول، والثروات، والأنشطة الاقتصادية. فتشريع الزكاة من حيث الوعاء جاء على نحو إجمالي بحيث يسع وحدات جديدة، وهو على هذا النحو يستوعب التطور في الحياة الاقتصادية، ويعد ذلك وجها من وجوه الإعجاز التشريعي في الزكاة.  

المؤلفون د.خالد راتب
التصنيف التشريعي و البياني
الوسوم الاعجاز التشريعي
عدد المشاهدات 585
عدد المشاركات 1
شارك المادة
تحميل المادة

مواد ذات صلة

الزكاة معجزة تشريعية من حيث درجة الإلزام والأهمية

الزكاة معجزة تشريعية من حيث درجة الإلزام والأهمية

الزكاة ركن من أركان الإسلام، وهذا جعلها في وعاء واحد مع الصلاة, والصوم, والحج، مما يدل على  أن الزكـــــاة معجـــــزة من حيث درجـــــة الإلزام والأهميــــــــة، فهي حق مفروض متى توافرت شروطها، والأدلة القرآنية والنبوية كثيرة جدا في وجوب الزكاة، يضاف إليهما إجماع الأمة على ذلك، ويتعضد هذا الالتزام بربط القرآن الكريم بين الصلاة ,والزكاة في آياته، وأن الدولة ملتزمة بمحاربة مانعي الزكاة –كما حدث من سيدنا أبي بكر خليفة المسلمين الأول:" والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال ، والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله  ﷺ لقاتلتهم على منعه ، فقال عمر : فوالله ما هو إلا أن رأيت أن الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق

علم الوراثة فى النبات

علم الوراثة فى النبات

النص المعجز: (وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَىٰ بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)  سورة الرعد  المعانى اللغوية: الماء هو جسم رقيق مائع به حياة كل نام ، وقوله : (وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) أي : هذا الاختلاف فى ثمارها وطعومها وروائحها ، وأوراقها وأزهارها. تفسير الآية: " يسقى بماء واحد " الذى ينزل من السماء حالا أو مآلا فتتكون منه الأنهار والعيون والآبار التى تحتوى على الماء الصالح للرى والعذب الصالح للشرب ، فتخرج الزروع والأشاجر بأزهارها وثمارها . وقال القرطبى : نبه سبحانه بقوله : يسقى بماء واحد على أن ذلك كله ليس إلا بمشيئته وإرادته ، وأنه مقدور بقدرته.

من الإعجاز التشريعي في الميراث الجمع بين الإيجاز والدقة  والشمول

من الإعجاز التشريعي في الميراث الجمع بين الإيجاز والدقة والشمول

آيات الأحكام  المرتبطة بالمواريث جاءت غاية في الإيجاز البليغ، مع شُمُولها كلَّ جوانب الأحكام التي تتناولها؛ فهي مُوجزة وشاملة، والجمعُ بين الشُّمول والإيجاز لون من الإعجاز التشريعي، فهناك آيتان مُتتاليتين في سورة النِّساء، وآية ثالثة، في آخر السُّورة نفسها، هذه الآيات الثَّلاث جمعت أغلب قواعد وأحكام علم الميراث- الذي شرح في أسفار كبيرة- وجمعت نصيب كل وارث في التركة ،بل وأعطت غير الوارثين عطاءات أخرى مثل الوصية المستحبة، مما سهل على  الفقهاء التعامل مع علم المواريث من زوايا متعددة، فبدأوا بالحديث عن الحقوق المتعلقة بالتركة وترتيبها، وأسباب الميراث وشروطه وموانعه، وأنواع الورثة وبيان نصيب كل واحد، وبيان من يحجب من الميراث ...، وهذا يدل دلالة واضحة على اتساع الرؤية الفقهية- المستنبطة من آيات الميراث قليلة العدد- في استيعاب الأحكام المتعلقة بالميراث. كما أحكام المواريث  قد صيغت  بدقة عالية ، فجل الأحكام التي استنبطها العلماء في المواريث مرجعها إلى بضع آيات في سورة النساء ،وبعض الأحاديث، وهذا إعجاز أيضاً يضاف إلى رصيد هذه النصوص الشرعية، وأقول جازماً بأنه لا يمكن لأي نص قانوني من وضع البشر أن يشتمل على كل هذه الأحكام الكثيرة- وهذا بغض النظر عن العظمة والدقة في هذه الأحكام-، وكل هذا يدل دلالة واضحة على إعجاز هذه النصوص لكل البشر حتى لو اجتمعوا لذلك، وصدق الله القائل: ﴿قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً﴾ (الإسراء: 88).