إن المتأمل في آيات الأحكام يجد إعجازا تشريعيا، فكل حكم يلتزم به المسلم لا بد من ربطه بجانب أخلاقي أو روحي؛ والهدف من ذلك تنمية الاستجابة للحكم داخل الضمير الإنساني والمجتمع، وسنعرض بعض النماذج التطبيقية على ربط الحكم الشرعي بالجانب الروحي والخلقي فقبل عرض أحكام المواريث (في سورة النساء) بداية من الآية الحادية عشر يأتي الأمر من الله بتقوى ومراقبته ،حيث افتتحت سورة النساء بأمر الناس جميعا بالتقوى، والحث على العبادة في إخلاص، والأمر بصلة الأرحام، وبيَّنت الآيات الأسباب الداعية لإقامة ورعاية تلك العلاقات على أسس متينة من التقوى والعدل، حيث إنه- وإن بث البشر في أقطار المعمورة - فقد خلقهم قبل ذلك من نفس واحدة، فهم يرجعون إلى أصل واحد، مما يستدعي عطف بعضهم على بعض، و يستوجب حنو بعضهم على بعض لإشاعة المودة وإفشاء التعاون والمحبة تحت مظلة الدين الخاتم، فجاء الأمر بالتقوى مقرونا بصلة الأرحام والنهي عن قطيعتها، لتأكيد أن لزوم تلك الحقوق، كلزوم القيام بحق الله تعالى، ففي هذه السورة يتم تجسيد ملامسة الفطرة الإنسانية في وشائجها وعلاقاتها الفطرية، رسما لمنهج مجتمع فاضل، تحكمه روابط أصيلة وتسيره أوامر رب العالمين بمقتضى الفطرة، وقطعا لدابر أي انحراف .
وهذه التقوى وتلك المراقبة أمر عام بمعنى أنها ليس مقصورة على المسلمين فقط بل شاملة للجنس الإنساني، قال تعالى:
﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبً ﴾
(النساء:1).
والالتزام بالتقوى والمراقبة قبل التعامل المالي يجنب الناس مشاكل كثيرة تحدث بسبب المبالغة في حب المال، مما يدفع بعض الناس إلى الظلم والعدوان وأكل أموال الناس بالباطل ، وقد يحدث ذلك عند توزيع التركات، فجاء الإسلام مذكرا الناس بالخوف من الله والرجوع إليه مما يجعلهم ملتزمين بالأحكام الإلهية التي سيطالبون بها لاحقا في طور الأحكام التفصيلية للميراث.
إن ربط الحكم الشرعي بالجانب الأخلاقي والروحي ليس مرتبطا بالتعاملات المادية فقط بل نجد ذلك في جل الأحكام أمرا ونهيا، فمثلا عند عرض التشريعات الخاصة بالأسرة نجد الحكم مشفوعا بتقوى الله ومراقبته والالتزام بالجانب السلوكي، ففي سورة النساء الصغرى (سورة الطلاق)، وبعد ذكر الأحكام المتعلقة بالطلاق نجد الآيات تختم بالتقوى ثلاث مرات:
﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ﴾
(الطلاق:2).
﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا ﴾
(الطلاق:4).
﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا ﴾
(الطلاق:5).
المؤلفون | د.خالد راتب |
التصنيف | التشريعي و البياني |
الوسوم | الاعجاز التشريعي |
عدد المشاهدات | 472 |
عدد المشاركات | 1 |
شارك المادة | |
تحميل المادة | تحميل المادة |
قال تعالى : فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَىٰ مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ ۖ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ. (سورة سبأ 14) تفسير الطبرى : يقول تعالى ذكره: فلما أمضينا قضاءنا على سليمان بالموت فمات (مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ) يقول: لم يدل الجن على موت سليمان (إِلا دَابَّةُ الأرْضِ) وهي الأرضة وقعت في عصاه التي كان متكئًا عليها فأكلتها، فذلك قول الله عز وجل (تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ) وهذه الآية القرآنية تتضمن ذكر ما حدث لنبي الله سليمان بن داود عليهما السلام عند وفاته، وذلك أنه لما مات كان متكئا على عصاه، فبقي متكئا عليها مدة من الزمن كما هو؛ لأن أجساد الأنبياء لا تبلى، وكان الجن لا يعلمون أنه قد مات، حتى وقعت الأرضة في عصاه التي كان متكئا عليها وكان لذلك سبب وهو ما قد أشيع: أن الجن تعلم الغيب، وهو غير صحيح حيث أكد الله بطلان هذا بقصة موت النبي سليمان عليه السلام، وذلك أن الجن لو كانوا يعلمون الغيب لعلموا بموت سليمان في حينه، لكنهم لم يعلموا بذلك إلا بسبب الأرضة التي أكلت عصاه، فكان هذا دليلا قاطعا على أن الجن لا يعلمون الغيب، وقد ذكر الله ذلك في آخر هذه الآية بقوله تعالى: ﴿فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا فى العذاب المهين .
تعددت أوجه الإعجاز التشريعي في أحكام المواريث، من حيث ورود آيات المواريث وترتيبها، وقد تبين ذلك من خلال الآيات المجملة لأحكام الميراث(يراجع آية 7-8 من سورة النساء).وآية (ل74-75) من سورة الأنفال. ثم جاءت الآيات المفصلة لأحكام الميراث آية (11،12 ، 176) من سورة النساء.
النص المعجز: يرشد إلى هذا الخلق الكريم السنة النبوية المطهرة , وقد جاء ذلك في أكثر من حديث منها: (عن ابن عباس أن رسول الله صلي الله عليه وسلم لما بعث معاذا إلي اليمن قال إنك تأتي قوما من أهل الكتاب, فادعهم إلي شهادة أن لا إله إلا الله, وأني رسول الله , فإن هم أطاعوك لذلك , فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة, فإن هم أطاعوك لذلك , فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم , فترد على فقرائهم, فإن هم أطاعوك لذلك, فإياك وكرائم أموالهم , واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب. رواه الجماعة).