ورد تصوير عجز الأصنام في موضعين من القرآن الكريم على هذا النحو:
قال تعالى:
(لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ ۖ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ ۚ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ)
(الرعد :14)قال تعالى:
(مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا ۖ وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ ۖ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)
(العنكبوت:41)
تدبر هذين التصويرين يفضي إلى أن التشبيه الأول من سورة الرعد كاشف عن عجز الأصنام عن النفع، وأن الأصنام غاية في العجز عن النفع، وأنها في عجزها عن النفع، تشبه عجز الماء عن التحرك من مكانه والصعود إلى فم الظمآن، وأن الظمآن مهما بسط يديه إليه ليصعد إلى فمه فإنه لايستجيب أبدا، مع شدة الحاجة، فالماء حياة، والظمأ حاجة شديدة، ولما كان هذا التشبيه مركزا على إبراز عجز الأصنام عن النفع اختار من العناصر ما يصور هذا المعنى، وأبرزه فى معرض التهكم، ولك أن ترى الحسرة فى (إلا) الاستثنائية، وكيف علقت بأفئدة الكافرين رجاء فى نفع أصنامهم لهم؟ ثم أعقبت ذلك بالحسرة، ولك أن تنظر فى جملة التشبيه (باسط) لترى تصوير حالهم فى الحاجة إلى الماء على وجه الثبوت والدوام، ولو قال: يبسط لدل ذلك على انقطاع الحاجة إلى الماء وقتا. فعكس النظم صورة الإلحاح فى طلب الماء وفى ذلك مقابلة لحال المشركين فى دعائهم أصنامهم وإلحاحهم عليها فى طلب النفع واستمرار الأصنام فى عدم الاستجابة؛ لانتفاء سماع الدعاء،((ولما أريد هنا نفى إجداء دعائهم الأصنام جعل نفى الإجابة متعديا بالباء إلى انتفاع أقل ما يجيب به السؤال وهو الوعد بالعطاء أو الاعتذار عنه فهم عاجزون عن ذلك، وهم أعجز عما فوقه، وتنكير شىء للتحقير))(1) فأنت ترى النظم قد انتفى من العناصر اللغوية ما يصور عجز الأصنام عن النفع ويفهم من التشبيه خيبة الداعى وانتفاء حصوله على نفع ومـع ذلك فقد ذيل التشبيه بجملة تصرح بخيبة الداعى (وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ) فالتشبيه كله ناف لأن تكون الأصنام بمثابة ما ينفع.
أما تشبيه العنكبوت فمقصوده تصوير عجز الأصنام عن الدفع، وحماية أنفسها، وحماية عابديها، وهو أشد العجز ، وقال العلامة ابن عاشور: ((ولما بينت لهم الأشياء والأمثال من الأمم التى اتخذت الأصنام من دون الله فما أغنت عنهم أصنامهم لما جاءهم عذاب الله أعقب ذلك بضرب المثل لحال جميع أولئك وحال من ماثلهم من مشركى قريش فى اتخاذهم ما يحسبونه دافعا عنهم وهو أضعف من أن يدفع عن نفسه بحال العنكبوت تتخذ لنفسها بيتا تحسب أنها تعتصم به من المعتدى عليها فإذا هو لا يصمد))(2).
فالعجز عن النفع مرتبة، والعجز عن الدفع تصوير أعلى للعجز، فالعجز عن الحماية أقبح من العجز عن الرعاية، وإن كان كلاهما قبيحا، لكن الثاني أشد قبحا، فلاح للناظر في التصويرين الكشفين عن عجز الأصنام أن المعنيين جاء مرتبين ترتيبا تصاعديا، حيث وقع المعنى القبيح في سورة الرعد، والمعنى الأقبح منه في سورة العنكبوت وهي من بعد الرعد في المصحف الشريف بسور كثيرة، وسياق الأول تعديد النعم ونفع العابد للمعبود كما يعلن عنه سياق سورة الرعد ومقصودها ، وسياق الثانى فى إهلاك السابقين وحماية المؤمنين كما ينبئ عنه سياق سورة العنكبوت ومقصودها، وتشبيه الرعد قد اهتم بتصوير عجز الآلهة عن النفع وانتقى من العناصر اللغوية ما حقق هذا الغرض، وتشبيه العنكبوت قد اهتم بتصوير عجز الآلهة من دون الله عن الدفع والحماية لمعبوديهم وانتقى من العناصر اللغوية ما حقق هذا الغرض.
المراجع
- التحرير والتنوير(13/109).
- التحرير والتنوير (20/252).
المؤلفون | أ.د إبراهيم الهدهد |
التصنيف | التشريعي و البياني |
الوسوم | إعجاز الترتيب التصاعدي تصوير عجز الأصنام |
عدد المشاهدات | 538 |
عدد المشاركات | 0 |
شارك المادة | |
تحميل المادة | تحميل المادة |
جاء هذا المعنى في ست سور من الذكر الحكيم هي على ترتيب المصحف (يس ـ القمر ـ المعارج ـ الانفطار ـ العاديات ـ القارعة) في سورة يس ذكر (الأجداث) جمع جدث وهو القبر ، وقع الفعل (ينسلون) ومعناه: يمشون مشيا سريعا، دون تصوير لهيئة هذا المشي السريع، وفي سورة القمر صورت هيئتهم عند الخروج، فهم في صورة تشبه صورة الجراد المنتشر، في التزاحم (كأنهم جراد منتشر) عند الخروج من القبور،فهي صورة تلي الصورة التي أجملتها سورة يس.
إعجاز الترتيب التصاعدي في معنى حسرة الكافرين على ضياع أعمالهم في الآخرة.
إعجاز الترتيب التصاعدي في الحديث عن هيئة خروج الناس من القبور عند البعث.